أسطورة تحت اللثام

الثلاثاء 21 تشرين الثاني 2023
جزء من لوحة للرسام اللبناني أيمن بعلبكي.

في مكان ما من كتابه المرجعي حول انتفاضة تشياباس المكسيكية، «سيد المرايا» (1999)، يسأل الصحافي الإسباني، مانويل فازكيز مونتالبان، الناطق الرسمي باسم حركة زاباتيستا الثورية، نائب القائد ماركوس، صاحب القناع المشهور، والهوية المجهولة: «لماذا هذه الأقنعة؟ لماذا تختبئ؟». يسحب نائب القائد الملثّم نفسًا من غليونه المعقوف، ثم يرسل الدخان من فمه ممزوجًا بضحكة ساخرة قائلًا: «كنّ جادًا. لم ينظر إلينا أحد عندما تقدمنا ووجوهنا مكشوفة، والآن أصبحت كل العيون متجهة نحونا لأننا نخفي وجوهنا». 

ترتعد فرائص الطغاة والغُزاة من كل شبح ومجهول. ذلك أن أي سيطرة تستمد قوتها من فكرة الانكشاف، أي أن يكون المسيطر عليه عاريًا مكشوفًا. لذلك كانت السرية العمود الذي قامت عليه كل المسارات الثورية قديمًا وحديثًا. يصنع الثوري أسطورته من فكرة الغياب، فهو لا يحضر إلا ليذيق عدوه الضربة الموجعة السريعة والمباغتة، ثم يتبخرّ في هواء المعركة بلا أثر. 

ذلك ما يفعله أبو عبيدة، الناطق العسكري لكتائب القسام في كل إطلالةٍ. رجل بلا ملامح ولا هوية، ومع ذلك تنتظره الجموع خلف الشاشات ويصدقه الناس، وتكتب له الأغاني وترفع صوره الأيقونية في العواصم والقرى، ويجاهد الناطق باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، على حساباته الإلكترونية لكشف هويته، مستعيدًا شائعات نشرها هو نفسه حول هوية أبو عبيدة قبل سنوات. وكل ذلك في سبيل أن ينزع تلك الأسطورية عن الرجل، لأنه يعي جيدًا أن الغموض الذي يكلله، لا ينطوي على مجرد محاذير أمنية تتعلق بتحديد هويته، وإنما تتجاوزها نحو بناء أيقونة سحرية مغلفة بالكوفية الحمراء وببدلة الكاكي المجردة من النياشين، إلا من راية فلسطينية تستقر على ذراع تهتز بين الحين والأخر لتسند يدًا ترفع سبابةً الوعيد، وكلّما اهتزت، اهتزت معها شعوب تبحث عن أمل تملأ الحيز الواسع بين محيط وخليج. شعوب لا تعرف من أبو عبيدة سوى الكنية، لكنها مع ذلك تنتظره وتصدقه وتحتفل به، لأنه يشبهها، أو على وجه التحديد يشبه النموذج الذي تريد أن تدركه. لذلك فإن أبو عبيدة، بحضوره، فقط يفعل ما لا يفعله الحاكم العربي متكلمًا لساعات، فهو، كما تقول الحكمة التاوية، «لا يُجهد نفسه؛ لكنه يُصيب هدفه».

«اهْجُهُم ورُوحَ القُدُسِ معكّ» 

دون التقليل من سحرية صورة أبو عبيدة، خاصة لجهة التأثير في الحشد المؤيد للمقاومة الفلسطينية، يبدو دوره أكثر أهمية كجزء من باقة متكاملة صنعتها المقاومة في سياق الحرب النفسية في مواجهة العدو، أولًا للتأثير في الحشد المؤيد للاحتلال، وثانيًا لتخريب الدعاية الإسرائيلية المضادة. فأبو عبيدة، بخطابه المحرر بدقة، والمصقول في شكل بصري يعج بالرموز، شأنه شأن مقاطع العمليات الفدائية، يقوم بدور في تخريب سردية النصر الإسرائيلي المزعوم، والتي تحاول حكومة الحرب في تل أبيب توزيعها وترسيخها لدى جمهورها ولدى الرأي العام العربي والدولي.

وهذا الدور ليس طارئًا، حيث اشتغلت المقاومة الفلسطينية باكرًا على الدعاية والحرب النفسية، التي بدأت على نحو بسيط وبدائي، وأحيانًا مبالغ فيه، ولكنها تطورت بتطور الصراع، حتى نضجت على نحو الذي نراه اليوم، متفوقة على الدعاية الإسرائيلية المثيرة للسخرية. والفرق بينهما هو قول الحقيقة، ذلك أن أي دعاية مؤسسة على الكذب أو المبالغة ستكون هشة وبلا أثر. وهو الدرس الذي استخلصته المقاومة الفلسطينية اليوم من دروس الماضي، حيث شكلت المبالغة والارتجال سمةً بارزةً للدعاية في مقاومة الستينات والسبعينات. كما استفادت من تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان، خلال حرب تموز 2006، التي شكلت منعطفًا فارقًا في تاريخ الحرب النفسية العربية في مواجهة دعاية العدو الإسرائيلي، حيث مسحت لحظة «انظروا إليها تحترق»، ركامًا هالًا من فشل حروبنا النفسية بدايةً من خرافات يونس بحري في راديو برلين، وصولًا إلى الأوهام التي بثتّها منظمة التحرير، وكشفها غزو أرييل شارون للبنان عام 1982، مرورًا بدعاية صوت العرب، التي ضاعفت من وقع النكسة على النفوس، وتحولت إلى سلاح في يد أعداء المشروع الوحدوي.

أبو عبيدة، بخطابه المحرر بدقة، والمصقول في شكل بصري يعج بالرموز، شأنه شأن مقاطع العمليات الفدائية، يقوم بدور في تخريب سردية النصر الإسرائيلي المزعوم، والتي تحاول حكومة الحرب في تل أبيب توزيعها وترسيخها لدى جمهورها ولدى الرأي العام العربي والدولي.

لعب الناطقون الرسميون وغير الرسميين باسم الجماعات الثورية دورًا بارزًا في الحروب النفسية ضد العدو. كانت الثورة الجزائرية مختبرًا هائلًا ومبدعًا لأشكال من الحرب النفسية، غير المسبوقة، التي ساهم فيها ناطقون باسم جيش التحرير أو خطباء مقربون من قيادة الثورة. بدءًا من عام 1956 أصبح جيش التحرير الوطني مقتنعًا بالحاجة إلى تنظيم حرب نفسية تعتمد أساسًا على «الدعاية الهجومية»، في سبيل خفض معنويات العدو وخططه الحربية، ورفع معنويات الشعب الجزائري وقواته الشعبية، والحد من الدعاية الفرنسية المضادة. كان صوت إذاعة الثورة السرية ينبعث من بين التلال بثلاث لغات: العربية والأمازيغية والفرنسية، كاسرًا صمتًا مديدًا فرضه الجيش الفرنسي، ومعلنًا عن عمليات نفذها المجاهدون وخسائر تكبدتها فرنسا. 

لاحقًا ركزت الثورة محطتين في تونس والمغرب تفرد كل من عيسى مسعودي والأمين بشيشي ومحمد بوزيدي، الذي واجه الاستعمار بالسلاح في الجبال، وبالشعر وبصوته الهادر في راديو الجزائر الحُرة. العجائز والنساء والأطفال والرجال، في القرى ومحتشدات الاعتقال الجماعي وفي المنفى، كانوا جميعًا يلتفون حول المذياع منتظرين عيسى مسعودي صادحًا: «أيها الشعب الجزائري المجيد، يا أبطالنا من جنود وفدائيين، فليتأكد الاستعمار ولتتأكد قوات حلف الأطلسي بأننا كما هزمناهم في مختلف العمليات، كما هزمناهم في جميع الميادين، سنهزمهم في المناطق التي أسموها بالمحرمة، إن الله معكم، والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار». كان صوت مسعودي مؤنسًا لوحشة الثوار في الجبال، والمعتقلين في السجون، ورصاصًا في أذان ضباط الجيش الفرنسي. في مقابل ذلك فشلت فرنسا، باستعمال عدد كبير من المحطات الإذاعية وتوظيف السينما والصور الفوتوغرافية في هزيمة هذا الصوت، لأنه كان يحمل في حباله «قوة الضحية»، لذلك فإن أي دعاية لا تحمل داخلها عدالة قضية ما، والصدق في مخاطبة العدو والصديق، سيكون أثرها وقتيًا، وانكشافها محتومًا، لترتّد على أصحابها. 

فلسطين و«الأيقونوغرافيا» الثورية

قبل عامٍ من اليوم، أقامت حركة حماس مهرجانًا في قلب مدينة غزة، احتفالًا بذكرى تأسيسها الخامسة والثلاثين. لم يكن لافتًا لأحد حينذاك، ذلك الشعار الممهور على اللوحة العملاقة فوق مسرح الخطباء: «آتون بطوفان هادر». من كان يدري أن ذلك الشعار، الذي بدا لنا عاطفيًا وبعيدًا عن الواقع، سيكون حقيقة مجسدةً على الأرض بعد عامٍ واحد. بعد سرب من الخطباء يصعد قائد الحركة يحيى السنوار للكلام، وفي الخلفية أغنية «زفي بشاير لينا يا مشنشلة بالرصاص». يتلو آية من سورة الفتح، ثم يستدير ربع استدارة نحو اللوحة العملاقة خلفه قائلًا: «يا مقدمة الطوفان الهادر»، مسترسلًا في الكلام دون أن يدرك أي أحد، أن الطوفان قادم حقيقة لا مجازًا. 

بدا لي وأنا أعيد مشاهدة المهرجان بكافة تفاصيله أن عقلًا ما يعي جيدًا قيمة الرموز والأيقونة يقف خلف هذه السينوغرافيا المثقلة بالدلالة والرسائل، التي لا يمكن فك شيفرتها إلا بعد وقوعها. كنت أبتسم كلما رأيت رمزًا أو صورة وقارنتها بما وقع، وأهمّ بأن أصيح بصيحة أرخميدسيةً «وجدتها». 

اشتغلت المقاومة الفلسطينية باكرًا على الدعاية والحرب النفسية، التي بدأت على نحو بسيط وبدائي، وأحيانًا مبالغ فيه، ولكنها تطورت بتطور الصراع، حتى نضجت على نحو الذي نراه اليوم، متفوقة على الدعاية الإسرائيلية المثيرة للسخرية.

تلعب المقاومة الفلسطينية في غزة لعبة الرموز بحرفية عالية، أو هي تواصل تقليدًا فلسطينيًا عظيمًا في إنتاج الرموز وتوظيفها. فلسطين أرض يتم فيه استدعاء الماضي باستمرار؛ فهذا الماضي برموزه أحد أشكال مقاومة الاحتلال، إنه حقًا العقبة العظيمة أمام الحلم الصهيوني. أقصد ما يسميه بيير نورا «أماكن الذاكرة»؛ أي أن هذا الماضي المنقول تم استقباله على أنه مشحون بمعناه الخاص. هنا يظهر الوجه الثالث من أسطورة أبو عبيدة. صورته المحملة بالرموز: الكوفية الحمراء، الفدائي الملثم، والعلم الفلسطيني. في مكان ما من الذاكرة تستقر صراعات الماضي التاريخي ورمزية الفرد كعنصر يمنح الهوية. لا يستعيد الشعب الفلسطيني تفاصيل أبطاله بدقة مستنسخة بل في كل مرحلة يلائم بعض جوانب هذه البطولة الأصلية لتكييفها مع ظروف النضال في الوقت الحاضر. الذاكرة تبلور هوية المجموعة مع مرور الوقت. ولكن، كما يقول موريس هالبواكس، تتكيف الذاكرة مع ظروف الحاضر. هذا البعد من الذاكرة هو الذي يحول ذكريات الماضي، ويعيد بناءها. بمعنى آخر، تغير الذكريات معناها إلى الحد الذي تشعر فيه المجموعات بالحاجة إلى تعديلها لتتوافق مع حاضرها. وهكذا، فإن جزءًا من الذاكرة، كونه بنيويًا، يظل مستقرًا إلى حد ما، بينما تتطور العناصر الأخرى وفقًا لاحتياجات الحاضر. 

لعب ياسر عرفات هذه اللعبة سابقًا ببراعةٍ. تحول أبو عمار منذ نهاية الستينيات إلى دال بصري على الثورة الفلسطينية. كان مدركًا في ذلك لأهمية هذا البعد. فقد حرص على تعزيز صورته بعناية طوال حياته: صورة المقاتل الأبدي، الذي يرتدي دائمًا زيًا أخضر زيتوني أو سترة كاكي. ودائمًا ما يكون المسدس إلى جانبه وعلى الرأس الكوفية وعقال. وهذا ما يفعله أبو عبيدة فهو المجاهد الملثم بالكوفية، شأنه شأن أجداده في ثورة 1936، وحاله حال الفدائي في الستينيات والسبعينيات بين الأردن ولبنان، أو ربما بدا لي وجهه المظلل بعيون حادة من خلف اللثام كوديع حداد ماشيًا في جنازة غسان كنفاني، أو كغسان نفسه في مطار الثورة إلى يمينه بسام أبو شريف ملثمًا، وأجد تفاصيل منه في صورة نادرة لسلفه في كتائب القسام، عماد عقل، يقلص قوس حاجبيه من وراء اللثام والمسدس متوثب في يمينه. هو كل ذلك وغير ذلك. امتداد للذاكرة وللمقاومة معًا.

«المتمرد الذي لا يخسر ينتصر. والجيش النظامي الذي لا ينتصر يخسر»، لم يكن تشي غيفارا هو من قال ذلك، بل هنري كيسنجر! يروي نائب القائد ماركوس الملثم، هذه الطُرفة في أحد حواراته، مضيفًا: «نحن، طالما أننا لا نخسر، ننتصر، وعدونا، طالما لم ينتصر يخسر، حتى لو كان متفوقًا جدًا بكل دباباته وطائراته». كذلك الشأن في غزة. طالما واصل أبو عبيدة إطلالته شبه اليومية متوعدًا ومحصيًا قتلى العدو، فإن ذلك شارة نصر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية